فصل: الخبر عن مقتل ابن الأبار وسياقة أوليته

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **


  الخبر عن مقتل ابن الأبار وسياقة أوليته

كان هذا الحافظ أبو عبد الله بن الأبار من مشيخة أهل بلنسية وكان علامة في الحديث ولسان العرب وبليغاً في الترسيل والشعر‏.‏وكتب عن السيد أبي عبد الله بن أبي حفص بن عبد المؤمن ببلنسية‏.‏ثم عن ابنه السيد أبي زيد‏.‏ثم دخل معه دار الحرب حين نزع إلى دين النصرانية ورجع عنه قبل أن يأخذ به‏.‏ثم كتب عن ابن مردنيش‏.‏ولما دلف الطاغية إلى بلنسية ونازلها بعث زيان بوفد بلنسية وبيعتهم إلى الأمير أبي زكريا وكان فيهم ابن الأبار هذا الحافظ فحضر مجلس السلطان وأنشد قصيدته على روي السين يستصرخه فبادر السلطان بإغاثتهم وشحن الأساطيل بالمدد إليهم من المال والأقوات والكسي فوجدهم في هوة الحصار إلى أن تغلب الطاغية على بلنسية‏.‏ورجع ابن الأبار بأهله إلى تونس غبطة بإقبال السلطان عليه فنزل منه بخير مكان ورشحه لكتب علامته في صدور رسائله ومكتوباته فكتبها مدة‏.‏ثم إن السلطان أراد صرفها لأبي العباس الغساني لما كان يحسن كتابتها بالخط المشرقي وكان آثر عنده من الخط المغربي فسخط ابن الأبار أنفة من إيثار غيره عليه وافتأت على السلطان في وضعها في كتاب أمر بإنشائه لقصور الترسيل يومئذ في الحضرة عليه وأن يبقى مكان العلامة منه لواضعها فجاهر بالرد ووضعها استبداداً وأنفة وعوتب على ذلك فاستشاط غضباً ورمى بالقلم وأنشد متمثلاً‏:‏ واطلب العز في لظى وذر الذل ولو كان في جنان الخلود فنمى ذلك إلى السلطان فأمر بلزومه بيته ثم استعتب السلطان بتأليف رفعه إليه عد فيه من عوتب من الكتاب واعتب‏.‏وسماه أعتاب الكتاب‏.‏واستشفع فيه بابنه المستنصر فغفر السلطان له وأقال عثرته وأعاده إلى الكتابة‏.‏ولما هلك الأمير أبو زكريا رفعه المستنصر إلى حضور مجلسه مع الطبقة الذين كانوا يحضرونه من أهل الأندلس وأهل تونس وكان في ابن الأبار أنفة وبأو وضيق خلق فكان يزري على المستنصر في مباحثه ويستقصره في مداركه فخشن له صدره مع ما كان يسخط به السلطان من تفضيل الأندلس وولايتها عليه‏.‏وكانت لابن أبي الحسين فيه سعاية لحقد قديم سببه أن ابن الأبار لما قدم في الأسطول من بلنسية نزل ببنزرت وخاطب ابن أبي الحسن بغرض رسالته ووصف أباه في عنوان مكتوبه بالمرحوم‏.‏ونبه على ذلك فاستضحك وقال‏:‏ إن أباً لا تعرف حياته من موته لأب خامل‏.‏ونميت إلى ابن أبي الحسين فأسرها في نفسه ونصب له إلى أن حمل السلطان على إشخاصه من بجاية‏.‏ثم رضي عنه واستقدمه ورجعه إلى مكانه من المجلس‏.‏وعاد هو إلى مساءة السلطان بنزعاته إلى أن جرى في بعض الأيام ذكر مولد الواثق وساءل عنه السلطان فاستبهم فعدا عليه ابن الأبار بتاريخ الولادة وطالعها فاتهم بتوقع المكروه للدولة والتربص بها كما كان أعداؤه يشنعون عليه لما كان ينظر في النجوم فتقبض عليه‏.‏وبعث السلطان إلى داره فرفعت إليه كتبه أجمع وألقى أثناءها فيما زعموا رقعة بأبيات أولها‏:‏ طغى بتونس حلف سموه ظلماً خليفة فاستشاط لها السلطان وأمر بامتحانه ثم بقتله قعصاً بالرماح وسط محرم من سنة ثمان وخمسين ثم أحرق شلوه وسيقت مجلدات كتبه وأوراق سماعه ودواوينه فأحرقت معه‏.‏

  الخبر عن مقتل اللياني وأوليته وتصاريف أحواله

أصل هذا الرجل من لليانة قرية من قرى المهدية مضمومة اللام مكسورة الثانية وكان أبوه عاملا بالمهدية وبها نشأ ابنه أبو العباس‏.‏وكان ينتحل القراءة والكتاب حتى حذق في علوم اللسان‏.‏وتفقه على أبي زكرياء البرقي‏.‏ثم طالع مذاهب الفلاسفة ثم صار إلى طلب المعاش من الإمارة فولي أعمال الجباية‏.‏ثم صودر في ولايته على مال أعطاه وتخلص من نكبته فنهض في الولايات حتى شارك كل عامل في عمله بما أظهر من كفايته وتنميته للأموال حتى قصر بهم وأديل منهم‏.‏وكان الكثير منهم متعلقاً من ابن أبي الحسين رئيس الدولة بذمة خدمة فأسفه بذلك وأغرى به بطانة السلطان ومواليه حتى سعوا به عند السلطان وأنه يروم الثورة بالمهدية حتى خشن له باطن السلطان‏.‏فدخل عليه ذات يوم أبو العباس الغساني فاستجازه السلطان في قوله‏:‏ اليوم يوم المطر فقال الغساني‏:‏ ويوم رفع الضرر فتنبه السلطان واستزاده فأنشد‏:‏ والعام تسعة كمثل عام الجوهري فكات إغراء باللياني فأمر أن يتقبض عليه وعلى عدوه ابن العطار وكان عاملا‏.‏وأمر أبا زيد بن يغمور بامتحانهما فعذبهما حتى استصفى أموالهما والميل في ذلك على اللياني‏.‏وكان في أيام امتحانه يباكر موضع عمله‏.‏ثم نمي عنه أنه يروم الفرار إلى صقلية وبوحث بعض من داخله في ذلك فأقر عليه فدفع إلى هلال كبير الموالي من العلوج فضربه إلى أن قتله ورمى بشلوه إلى الغوغاء فعبثوا به وقطعوا رأسه ثم تتبع أقاربه وذووه بالنكال إلى أن الخبر عن انتقاض أبي علي الملياني بمليانة علي يد الأمير أبي حفص كان المغرب الأوسط من تلمسان وأعمالها إلى بجاية في طاعة السلطان منذ تغلب أبوه الأمير أبو زكرياء عليه وفتح تلمسان وأطاعه يغمراسن وكان بين زناتة بتلك الجهات فتن وحروب شأن القبائل اليعاسيب وكان مليانة من قسمة مغراوة بني ورسيفان وكانوا أهل بادية‏.‏وتقلص ظل الدولة عن تلك الجهات بعض الشيء‏.‏وكان أبو العباس الملياني من مشيخة مليانة صاحب فقه ورواية وسمت ودين رحل إليه الأعلام وأخذ عنه العلماء وانتهت إليه رئاسة الشورى ببلده‏.‏ونشأ ابنه أبو علي خلوا من الخلال متهالكاً في الرياسة متبعاً غواية الشبيبة فلما رأى تقلص ظل الدولة وفتن مغراوة مع يغمراسن ومزاحمته لهم حدثته نفسه بالاستبداد فخلع طاعة آل أبي حفص ونبذ دعوتهم وانبرى بها داعياً لنفسه‏.‏وبلغ الخبر إلى السلطان فسرح إليه أخاه الأمير أبا حفص ومعه الأمير أبو زيد بن جامع ودن الرنك أخو الفنش وطبقات الجند‏.‏فخرج من تونس سنة تسع وخمسين وأغذ السير إلى مليانة فنازلها مدة وشد حصارها حتى اقتحموها غلاباً‏.‏وفر أبو علي الملياني ولحق ببني يعقوب من آل العطاف أحد شعوب زغبة فأجاروه وأجازوه إلى المغرب الأقصى إلى أن كان من خبره ما نذكره بعد‏.‏ودخل الأمير أبو حفص مليانة ومهد نواحيها وعقد عليها إلى ابن منديل أمير مغراوة فملكها مقيماً فيها لدعوة السلطان شأن غيرها من عمالات مغراوة‏.‏وقفل الأمير أبو حفص إلى تونس ولقيه بطريقه كتاب السلطان بالعقد له على بجاية وإمارتها فكره ذلك غبطة بجوار السلطان‏.‏وترددت في ذلك رغبته فأديل منها بالشيخ أبي هلال عياد بن سعيد الهنتاني وعقد له على بجاية‏.‏ولحق الأمير أبو حفص بالحضرة إلى أن كان من خلافته ما نذكره بعد‏.‏وهلك شقيقه أبو بكر ابن الأمير أبي زكريا ثانية مقدمه إلى تونس سنة إحدى وستين فتفجع له الخليفة والقرابة والناس وشهد السلطان جنازته والبقاء لله وحده‏.‏الجبر عن فرار أبي القاسم بن أبي زيد ابن الشيخ أبي محمد وخروجه في رياح كان أبو القاسم بن أبي زيد هذا في جملة ابن عمه الخليفة وتحت جرايته وأبوه أبو زيد هو القائم بالأمر بعد أبيه الشيخ أبي محمد ولحق بالمغرب‏.‏وجاء أبو القاسم في جملة الأمير أبي زكريا وأوصى به ابنه إلى أن حدثته نفسه بالتوثب والخروج‏.‏وخامره الرعب من إشاعة تناقلها الدهماء سببها أن السلطان استحدث سكة من النحاس مقدرة على قيمة من الفضة حاكى بها سكة الفلوس بالمشرق تسهيلا على الناس في المعاملات بإسرافها وتيسيراً لاقتضاء حاجاتهم‏.‏ولما كان لحق سكة الفضة من غش اليهود المتناولين لصرفها وصوغها وسمى سكته التي استحدثها بالحندوس‏.‏ثم أفسدها الناس بالتدليس وضربها أهل الريب ناقصة عن الوزن وفشا فيها الفساد‏.‏واشتد السلطان في العقوبة عليها فقطع وقتل وصارت ريبة لمن تناولها‏.‏وأعلن الناس بالنكير في شأنها وتنادوا بالسلطان في قطعها وكثر الخوض في ذلك وتوقعت الفتنة‏.‏وأشيع من طريق الحدثان الذي تكلف به العامة أن الخارج الذي يثير الفتنة هو أبو القاسم بن أبي زيد فأزال السلطان تلك السكة وعفا عليه وأهمه شأن أبي القاسم ابن عمه وبلغه الخبر فخامره الرعب إلى ما كان يحدث نفسه من الخروج ففر من الحضرة سنة إحدى وستين ولحق برياح ونزل على أميرهم شبل بن موسى بن محمد رئيس الدواودة فبايع له وقام بأمره‏.‏ثم بلغه اعتزام السلطان على النهوض إليه فخشي بادرته واضطرب أمر العرب من قبيله‏.‏ولما أحس أبو القاسم باضطرابهم وخشي أن يسلموه إذا أزادهم السلطان عليها تحول عنهم ولحق بتلمسان وأجاز البحر منها إلى الأندلس وصحب الأمير أبا إسحاق ابن عمه في مثوى اغترابهما بالأندلس‏.‏ثم ساءت أفعاله وعظم استهتاره‏.‏وفشا النكير عليه من الدولة فلحق بالمغرب وأقام بتينملل مدة‏.‏ثم رجع إلى تلمسان وبها مات‏.‏وقام الأمير أبو إسحاق بمكانه من جوار ابن الأحمر إلى أن كان من أمره ما نذكره‏.‏

  الخبر عن خروج السلطان إلى المسيلة

لما اتصل بالسلطان شأن أبي قاسم ابن عمه أبي زيد وفضاله عن رياح إلى المغرب بعد عقدهم بيعته وأجلابهم على البلاد معه خرج من تونس سنة أربع وستين في عساكر الموحدين وطبقات الجند لتمهيد الوطن ومحو آثار الفساد منه وتقويم العرب على الطاعة‏.‏وتنقل في الجهات إلى أن وصل بلاد رياح فدوخها ومهد أرجاءها وفر شبل بن موسى وقومه الدواودة إلى القفر واحتل السلطان بالمسيلة آخر وطن رياح‏.‏ووافاه هنالك محمد من عبد القوي أمير بني توجين من زناتة مجدداً لطاعته ومتبركاً بزيارته فتلقاه من البرور تلقي أمثاله وأثقل كاهله بالحباء والجوائز وجنب له الجياد المقربات بالمواكب المثقلة بالذهب واللجم المحلات‏.‏وضرب له الفساطيط الفسيحة الأرجاء من ثياب الكتان وجدل القطن إلى ما يتبع ذلك من المال والظهر والكراع والأسلحة‏.‏وأقطع له مدينة مقرة وبلد أوماش من عمل الزاب وانقلب عنه إلى وطنه‏.‏ورجع السلطان إلى تونس وفي نفسه من رياح ضغن إلى أن صرف إليهم وجه تدبيره كما نذكره ولثانية احتلاله بالحضرة سنة خمس وستين كان مهلك مولاه هلال ويعرف بالقائد وكان له في الدولة مكان بما كان تلادا للسلطان وكان شجاعاً جواداً خيراً محبباً سهلا مقبلا على أهل العلم وذوي الحاجات وله في سبيل الخير آثار منقولة طار له بها ذكر فارتمض السلطان لمهلكه‏.‏

  الخبر عن مقتل مشيخة الدواودة

كان شبل بن موسى وقومه من الدواودة قد فعلوا الأفاعيل في اضطراب الطاعة ونصب من لحق بهم من أهل هذا البيت للملك فبايعوا للأمير أبي إسحاق كما ذكرناه‏.‏ثم بعده لأبي القاسم ابن عمه أبي زيد‏.‏وخرج إليهم السلطان سنة أربع وستين ودوخ أوطانهم ولحقوا بالصحراء ودافعوه على البعد بطاعة ممرضة فتقبلها وطوى لهم على الثنا‏.‏ورجع إلى تونس فأوعز إلى أبي هلال عياد عامل بجاية من مشيخة الموحدين باصطناعهم واستئلافهم لتكون وفادتهم عليه من غير عهد‏.‏وجمع السلطان أحلافه من كعوب بني سليم ودباب وأفاريق بنه هلال‏.‏وخرج من تونس سنة ست وستين في عساكر الموحدين وطبقات الجند‏.‏ووافاه بنو عساكر بن سلطان أخوة بني مسعود بن سلطان من الدواودة فعقد لمهدي بن عساكر على إمارة قومه وغيرهم من رياح‏.‏وفر بنو مسعود بن سلطان مصحرين في أثرهم حتى نزل نقاوس وعسكروا بثنايا الزاب ورسلهم تختلف إلى أبي هلال إيناساً للمراجعة على يده للدخلة السابقة فأشار عليهم بالوفاد على السلطان وفاء بقصده من ذلك فتقبلوا إشارته‏.‏ووفد أميرهم شبل بن موسى بن محمد بن مسعود وأخوه يحيى وبنو عمهما أولاد زيد بن مسعود‏:‏ سباع بن يحيى بن دريد وابنه وطلحه بن ميمون بن دريد وحداد بن مولاهم ابن خنفر بن مسعود وأخوه فتقبض عليهم لحينهم وعلى دريد ابن تارير من شيوخ كرفة‏.‏وانتهبت أسلابهم وضربت أعناقهم ونصبت أشلاؤهم بزراية حيث كانت بيعتهم لأبي القاسم بن أبي زيد وبعث برؤوسهم إلى بسكرة فنصبت بها وأغذ السير غازياً إلى أحيائهم وحللهم بمكانها من ثناية الزاب‏.‏وصبحهم هنالك فأجفلوا وتركوا الظهر والكراع والأبنية فامتلأت أيدي العساكر وسدويكش منها ونجوا بالعيال والولد على الأقتاب والعساكر في أتباعهم إلى أن أجازوا وادي شدى قبلة الزاب وهو الوادي الذي يخرج أصله منه جبل راشد قبله المغرب الأوسط ويمر إلى ناحية الشرق مجتازاً بالزاب إلى أن يصب في سبخة نفزاوة من بلاد الجريد‏.‏فلما أجاز فلهم الوادي أصحروا إلى المفازة المعطشة والأرض الحرة السوداء المستحجرة المسماة بالحمادة فرجعت العساكر عنهم وانقلب السلطان من غماته ظافراً ظاهراً وأنشده الشعراء في التهنئة ولحق فل الدواودة بملوك زناتة فنزل بنو يحيى بن دريد على يغمراسن بن زيان وبنو محمد بن مسعود على يعقوب بن عبد الحق فأجاروهم وأوسعوهم حباء وملأوا أيديهم بالصلات ومرابطهم بالخيل وأحياءهم بالإبل ورجعوا إلى مواطنهم فتغلبوا على واركلا وقصور ريغة واقتطعوها من إيالة السلطان‏.‏ثم زحفوا إلى الزاب فجمع لهم عامله ابن عتو وكان موطناً بمقره ولقيهم على حدود أرض الزاب فهزموه واتبعوه إلى قطاوة فقتلوه عندها واستطالوا على الزاب وجبل أوراس وبلاد الحضنة إلى أن اقتطعتهم الدول إياها من بعد ذلك فصارت ملكاً لهم‏.‏هذه الأمة المعروفة بالإفرنجة وتسميها العامة بالافرانسيس نسبة إلى بلد من أمهات أعمالهم تسمى افرانسة‏.‏ونسبهم إلى يافث بن نوح وهم بالعدوة الشمالية من عدوتي هذا البحر الرومي الغربي ما بين جزيرة الأندلس وخليج قسطنطينة مجاورون الروم من جانب الشرق والجلالقة من جانب الغرب‏.‏وكانوا قد أخذوا بدين النصرانية مع الروم ومنهم لقنوا دينها‏.‏واستفحل ملكهم عند تراجع ملك الروم وأجازوا البحر إلى إفريقية مع الروم فملكوها ونزلوا أمصارها العظيمة مثل‏:‏ سبيطلة وجلولا وقرطاجنة ومرفاق وباغاية ولمس وغيرها من الأمصار وغلبوا على كل من كان بها من البربر حتى اتبعوهم في دينهم وأعطوهم طاعة الانقياد‏.‏ثم جاء الإسلام وكان الفتح بانتزاع الأعراب من أيديهم سائر أمصار إفريقية والعدوة الشرقية والجزر البحرية مثل أقريطش ومالطة وصقلية وميورقة ورجوعهم إلى عدوتهم‏.‏ثم أجازوا خليج طنجة وغلبوا القوط والجلالقة والبشكنس وملكوا جزيرة الأندلس وخرجوا من ثناياها ودورها إلى بسائط هؤلاء الإفرنجة فدوخوها وعاثوا فيها‏.‏ولم تزل الصوائف تتردد إليها صدراً من دولة بني أمية بالأندلس وكان ولاة إفريقية من الأغالبة ومن قبلهم أيضاً يرددون عساكر المسلمين وأساطيلهم من العدوة حتى غلبوهم على الجزر البحرية ونازلوهم في بسائط عدوتهم فلم تزل في نفوسهم من ذلك ضغائن فكان يخالجها الطمع في ارتجاع ما غلبوا عليه منها‏.‏وكان الربع أقرب إلى سواحل الشام وطمع فيها‏.‏فلما وصل أمر الروم بالقسطنطينية ورومة واستفحل ملك الفرنجة هؤلاء وكان ذلك على هيئة سمو الخلافة بالمشرق فسموا حينئذ إلى التغلب على معاقل الشام وثغوره وزحفوا إليها وملكوا الكثير منها واستولوا على المسجد الأقصى وبنوا فيه الكنيسة العظمى بدل المسجد ونازلوا مصر والقاهرة مراراً حتى جاد الله للإسلام من صلاح الدين أبي أيوب الكردي صاحب مصر والشام في أواسط المائة السادسة جنة واقية وعذاباً على أهل الكفر مصبوباً فأبلى في جهادهم وارتجع ما ملكوه وطهر المسجد الأقصى من إفكهم وكفرهم وهلك على حين غرة من الغزو والجهاد‏.‏ثم عاودوا الكرة ونازعوا مصر في المائة السابعة على عهد المالك الصالح صاحب مصر والشام وأيام الأمير أبي زكريا بتونس فضربوا أبنيتهم بدمياط وافتتحوها وتغلبوا في قرى مصر‏.‏وهلك الملك الصالح خلال ذلك وولي ابنه المعظم وأمكنت المسلمين في الغزو فرصة أيام فيض النيل ففتحوا الغياض وأزالوا مدد الماء فأحاط بمعسكرهم وهلك منهم عالم وقيد سلطانهم أسيراً من المعركة إلى السلطان فاعتقله بالإسكندرية حتى مر عليه بعد حين من الدهر وأطلقه على أن يمكنوا المسلمين من دمياط فوفوا له‏.‏ثم على شرط المسالمة فيما بعد فنقضه لمدة قريبة واعتزم على الحركة إلى تونس متجنباً عليهم فيما زعموا بمال أدعياء تجار أرضهم وأنهم أقرضوا اللياني‏.‏فلما نكبه السلطان طالبوه بذلك المال وهو نحو ثلاثمائة دينار بغير موجب يستنمون إليه فغضبوا لذلك واشتكوا إلى طاغيتهتم فامتعض لهم ورغبوه في غزو تونس لما كان فيها من المجاعة والموتان‏.‏فأرسل الفرنسيس طاغية الإفرنج واسمه سنلويس بن لويس وتلقب بلغة الإفرنج روا فرنس ومعناه ملك افرنس فأرسل إلى ملوك النصارى يستنفرهم إلى غزوها وأرسل إلى القائد خليفة المسيح بزعمهم فأوعز إلى ملوك النصرانية بمظاهرته وأطلق يده في أموال الكنائس مدداً له‏.‏وشاع خبر استعداد النصارى للغزو في سائر بلادهم وكان الذين أجابوه للغزو ببلاد المسلمين من ملوك النصرانية ملك الانكتار وملك اسكوسيا وملك تورك وملك برشلونة واسمه ريدراكون وجماعة آخرون من ملوك الإفرنج هكذا ذكر ابن الأثير‏.‏وأهم المسلمين بكل ثغر شأنهم وأمر السلطان في سائر عمالاته بالاستكثار من العدة وأرسل في الثغور لذلك بإصلاح الأسوار واختزان الحبوب وانقبض تجار النصارى عن تعاهد بلاد المسلمين‏.‏وأوفد السلطان رسله إلى الفرنسيس لاختبار حاله ومشارطته على ما يكف عزمه‏.‏وحملوا ثمانين ألفاً من الذهب لاستتمام شروطهم فيما زعموا فأخذ المال من أيديهم وأخبرهم أن غزوه إلى أرضهم‏.‏فلما طلبوا المال اغتل عليهم بأنه لم يباشر قبضه ووافق شأنهم معه وصول رسول عن صاحب مصر وأنشده قائلا من قول أبي مطروح شاعر السلطان بمصر‏:‏ قل للفرنسيس إذا جئته مقال صدق من وزير نصيح آجرك الله على ما جرى من قتل عباد نصارى المسيح أتيت مصراً تبتغي ملكها تحسب أن الزمر بالطبل ريح فساقك الحين إلى أدهم ضاق به عن ناظريك الفسيح وكل أصحابك أودعتهم بسوء تدبيرك بطن الضريح سبعون ألفاً لا يرى منهم إلا قتيل أو أسير جريح ألهمك الله إلى مثلها لعل عيسى منكم يستريح إن كان باباكم بذا راضياً فرب غش قد أتى من نصيح فاتخذوه كاهناً إنه أنصح من شق لكم أو سطيح وقل لهم إن أزمعوا عودة لأخذ ثأر أو لشغل قبيح دار ابن لقمان على حالها والقيد باق والطواشي صبيح تونس بما يسمع عنهم من المخالفات عذراً دافعهم به وصرف الرسل من سائر الآفاق ليومه‏.‏فوصل رسل السلطان منذرين بشأنهم وجمع الطاغية حشده وركب أساطيله إلى تونس آخر ذي القعدة سنة ثمان وستين فاجتمعوا بسردانية وقيل بصقلية‏.‏ثم واعدهم بمرسى تونس وأقلعوا ونادى السلطان في الناس بالنذير بالعدو والاستعداد له والنفير إلى أقرب المدائن وبعث الشواني لاستطلاع الخبر واستبهم أياماً‏.‏ثم توالت الأساطيل بمرسى قرطاجنة وتفاوض السلطان مع أهل الشورى من الأندلس والموحدين في تخليتهم وشأنهم من النزول بالساحل أو صدهم عنه فأشار بعضهم بصدهم حتى تنقذ ذخيرتهم من الزاد والماء فيضطرون إلى الإقلاع‏.‏وقال آخرون إذا أقلعوا من مرسى الحضرة ذات الحامية والعمد صبحوا بعض الثغور سواها فملكوه واستباحوه واستصعبت مغالبتهم عليه فواص السلطان على هذا وخلوا وشأنهم من النزول فنزلوا بساحل قرطاجنة بعد أن ملئت سواحل رودس بالمرابطة بجند الأندلس والمطوعة زهاء أربعة آلاف فارس لنظر محمد بن الحسين رئيس الدولة‏.‏ولما نزل النصارى بالساحل وكانوا زهاء ستة آلاف فارس وثلاثين ألفاً من الرجالة فيما حدثني أبي عن أبيه رحمهما الله‏.‏قال‏:‏ وكانت أساطيلهم ثلاثمائة بين كبار وصغار وكانوا سبعة يعاسيب كان فيهم الفرنسيس وأخوه جرون صاحب صقلية وصاحب الجزر والعلجة زوج الطاغية تسمى الرينة وصاحب البر الكبير وتسميهم العامة من أهل الأخبار ملوكاً ويعنون أنهم متباينون إذ ظاهروا على غزو تونس وليس كذلك‏.‏وإنما كان ملكاً واحداً وهو طاغية الفرنجة وأخوته وبطارقته عدد كل واحد منهم ملكاً لفضل قوته وشدة بأسه فأنزلوا عساكرهم في المدينة القديمة من قرطاجنة وكانت ماثلة الجدران اضطرم المعسكر بداخلها ووصلوا ما فصله الخراب من أسوارها بألواح الخشب ونضدوا شرفاتها وأداروا على السرر خندقاً بعيد المهوى وتحصنوا‏.‏وندم السلطان على إضاعة الحزم في تخريبها أو دفاعهم عن نزلها‏.‏وأقام ملك الفرنجة وقومه متمرسين بتونس ستة أشهر والمدد يأتيه في أساطيله من البحر من صقلية والعلوة بالرجل والأسلحة والأقوات‏.‏وسلك بعض المسلمين طريقاً في البحرية واتبعهم العرب فأصابوا غرة في العدو فظفروا وغنموا وشعروا بمكانهم فكلفوا بحراسة البحيرة وبعثوا فيها الشواني بالرماة ومنعوا الطريق إليهم وبعث السلطان في ممالكه حاشداً فوافته الأمداد من كل ناحية ووصل أبو هلال صاحب بجاية وجاءت جموع العرب وسدويكش وولهاصة وهوارة حتى أمده ملوك المغرب من زناتة وسرح إليه محمد بن عبد القوي عسكر بني توجين لنظر ابنه زيان‏.‏وأخرج السلطان ابنتيه وعقد لسبعة من الموحدين على سائر الجند من المرتزقة والمطوعة وهم‏:‏ إسماعيل بن أبي كلداسن وعيسى بن داود ويحيى بن أبي بكر ويحيى بن صالح وأبو هلال عياد صاحب بجاية ومحمد بن عبو وأمرهم كلهم راجع ليحيى بن صالح ويحيى بن أبي بكر منهم‏.‏واجتمع من المسلمين عدد لا يحصى وخرج الصلحاء والفقهاء والمرابطون لمباشرة الجهاد بأنفسهم والتزم السلطان القعود بإيوانه مع بطانته وأهل اختصاصه وهم الشيخ أبو سعيد المعروف بالعود وابن أبي الحسين وقاضيه أبو القاسم بن البراء وأخو العيش‏.‏واتصلت الحرب والتقوا في منتصف محرم سنة تسع بالمنصف فزحف يومئذ يحيى صالح وجرون‏.‏فمات من الفريقين خلق وهجموا على المعسكر بعد العشاء وتدامر المسلمون عنده ثم غلبوا عليه بعد أن قتل من النصارى زهاء خمسمائة فأصبحت أبنيته مضروبة كما كانت‏.‏وأمر بالخندق على المعسكر فتعاصرته الأيدي واحتفر فيه الشيخ أبو سعيد بنفسه وابتلي المسلمون بتونس وظنوا الظنون‏.‏واتهم السلطان بالتحول عن تونس إلى القيروان‏.‏ثم إن الله أهلك عدوهم وأصبح ملك الفرنجة ميتاً يقال حتف أنفه ويقال أصابه سهم غرب في بعض المواقف بأبته ويقال أصابه مرض الوباء ويقال وهو بعيد أن السلطان بعث إليه مع ابن جرام الدلاصي بسيف مسموم وكان فيه مهلكه‏.‏ولما هلك اجتمع النصارى على ابنه دمياط سمي بذلك لميلاده بها فبايعوه واعتزموا على الإقلاع‏.‏وكان أمرهم راجعاً إلى العلجة فراسلت المستنصر أن يبذل لها ما خسروه في مؤنة حركتهم وترجع بقومها فأسعفها السلطان لما كان العرب اعتزموا على الانصراف إلى مشاتيهم‏.‏وبعث مشيخة الفقهاء لعقد الصلح في ربيع الأول سنة تسع وستين فتولى عقده وكتابه القاضي ابن زيتون لخمسة عشر عاماً‏.‏وحضر أبو الحسن علي بن عمرو وأحمد بن الغماز وزيان بن محمد بن عبد القوي أمير بني توجين واختص جرون صاحب صقلية بسلم عقده على جزيرته‏.‏وأقلع النصارى بأساطيلهم وأصابهم عاصف من الريح أشرفوا على العطب وهلك الكثير منهم‏.‏وأغرم السلطان الرعايا ما أعطى العدو من المال فأعطوه طواعية‏.‏يقال إنه عشرة أحمال من المال وترك النصارى بقرطاجنة تسعين منجنيقاً‏.‏وخاطب السلطان صاحب المغرب وملوك النواحي بالخبر ودفاعه عن المسلمين وما عقده من الصلح وأمر بتخريب قرطاجنة وأن يؤتى بنيانها من القواعد فصير أبنتيها طامسة ورجع الفرنجة إلى دعوتهم فكان آخر عهدهم بالظهور والاستفحال ولم يزالوا في تناقص وضعف إلى أن افترق ملكهم عمالات‏.‏واستبد صاحب صقلية لنفسه وكذا صاحب نايل وجنوة وسردانية وبقي بيت ملكهم الأقدم لهذا العهد على غاية من الفشل والوهن‏.‏والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين‏.‏أصل هذا الرجل من بني سعيد رؤساء القلعة المجاورة لغرناطة وكان كثير منهم قد استعملوا أيام الموحدين بالعدوتين وكان جده أبو الحسن سعيد صاحب الأشغال بالقيروان‏.‏ونشأ حافده هذا في كفالته‏.‏ولما عزل وقفل إلى المغرب هلك ببونة سنة أربع وستمائة ورجع حافده محمد إلى تونس والشيخ أبو محمد بن أبي حفص صاحب إفريقية لذلك العهد فاعتلق بخدمة ابنه أبي زيد‏.‏ولما ولي الأمر بعد وفاة أبيه غلب محمد هذا على هواه‏.‏ثم جاء السيد أبو علي من مراكش على إفريقية وارتحل أبو زيد إلى مراكش ومحمد بن أبي الحسين إلى تونس واتصل الأمير أبي زكرياء لأول استبداده فغلب على هواه وكان مبختاً في صحابة الملوك‏.‏ولما ولي المستنصر أجراه على سننه برهة ثم تنكر له إثر كائنه اللحياني وعظمت سعاية أعدائه من البطانة وأشاعوا بمداخلته لأبي القاسم ابن مخدومه أبي زيد ابن الشيخ أبي محمد فنكبه السلطان واعتقله بداره تسعة أشهر‏.‏ثم سرحه وأعاده إلى مكانه وثار من أعدائه واستولى على أمور السلطان إلى أن هلك سنة إحدى وسبعين‏.‏وكان ابن عمه سعيد بن يوسف بن أبي الحسن صاحب أشغال الحضرة وكان قد أفنى مالا جسيماً ونال من الحضرة منالا‏.‏وكان الرئيس أبو عبد الله متفنناً في العلوم مجيداً في اللغة‏.‏يقرض الشعر فيحسن ويرسل فيجيد‏.‏وله من التواليف‏:‏ كتاب ترتيب المحكم لابن سيدة على نسق الصحاح للجوهري واختصاره وسماه الخلاصة‏.‏وكان في رياسته صليب الرأي قوي الشكيمة عالي الهمة شديد المراقبة والحزم في الخدمة وله شعر نقل منه التجاني وغيره‏.‏ومن أشهر ما نقل عنه من شعره يخاطب عنان بن جابر عن الأمير أبي زكريا لما خالف واتبع ابن غانية وهي على روي الراء كان قبلها أخرى على روي الدال‏.‏وكان له ولد اسمه سعيد وترقى في حياة أبيه المراتب السلطانية‏.‏ثم اغتبظ دون غايته‏.‏وفي ثالثة مهلكه كان مهلك الشيخ أبي سعيد عثمان بن محمد الهنتاتي المعروف بالعود الرطب ويعرف أهل بيته بالمغرب ببني أبي زيد‏.‏وكان منهم عبد العزيز المعروف بصاحب الأشغال كان فر من المغرب أيام السعيد لجفوة نالته ولحق بسجلماسة سنة إحدى وأربعين‏.‏وقد كان انتزى بها عبد الله الهزرجي وبايع للأمير أبي زكريا فأجازه عبد الله إلى تونس ونزل على الأمير أبي زكريا ونظمه في طبقات مشيخة الموحدين وأهل مجلسه‏.‏ثم حظي عند ابنه المستنصر بعد نكبة بني النعمان حظوة لا لم كفاء لها‏.‏واستولى على الرأي والتدبير إلى أن هلك سنة ثلاث وسبعين فشيع طيب الذكر ملحفاً بالرضوان من الخاصة والكافة والله مالك الأمور‏.‏